[تنشر هذه المادة ضمن ملف خاص حول التناول السردي للحرب والعنف في سوريا. للإطلاع على جميع مواد الملف اضغط/ي هنا]
الروائية السورية لينا هويان الحسن
سأنطلق من فكرة الحرية بحد ذاتها. من السؤال المرير: هل نحن أحرار؟
يجب أن نعرف، ونرى، وندرك كل تلك التراكمات التي خلّفها لنا الانتماء. يجب أن نعرف مايجب أن نقوضه في أنفسنا لنكتب. مع لحظاتي الأولى في عالم الأدب انضويت تحت لافتة "الحرية" الشاسعة، لكن هل حقًا كنت كذلك؟ هل أنا حرّة تمامًا لأزعم أني كتبت دون خوف من أحد أو حساب لشيء؟
نشأت في جو يمقت فكرة "البدو والبداوة" وأنا ابنة "الصحراء" أحمل انتماءًا قبليًا تربيت عليه. ترعرعت في مدينة دمشق، ثقفتني هذه المدينة العريقة، درست الفلسفة في جامعتها، زرت المعارض التشكيلية، وشاهدت الأفلام السينمائية، كتبت في الصحافة ثم حدث وأن تجرأت على كتابة رواية.
كتبت روايتي الأولى عن عالم أعرفه جيدًا، وأحبه، خرجت روايتي إلى الوسط الثقافي وقوبلت بالاستهجان، لم يُرحب بها، لماذا؟ لأني أكتب حكايات عن بشر يحبون الخيول والصقور والحرية. عالم بائد يفترض بي تناسيه وتجاهله والكتابة عن مشكلات المجتمع السوري، وماهي؟ إنها الحرية؟ انتبهت إلى أن المثقف السوري لايحتفي بغير تلك الروايات التي يكون أبطالها سجناء سياسيين.
أول ممنوع إذن أن تكتب ماتحب، هل هذه هي الحرية التي ينادي بها المثقف الذي يطالب بها الحكومة بينما هو نفسه لايمارسها. منذ تلك اللحظة علمت أن "الفاشية" موجودة بدواخلنا، ولنكون أحرارًا علينا أن نعري قبليتنا المطمورة في أنفسنا.
الحرية ليست مطلقة، الحرية الكاملة اختلست منذ لحظة ولادتنا، ولنكتب علينا أن نكون ذلك الآخر الشجاع الذي يقف على مسافة من انتماءاته ليتجرد من تحيزاته الدفينة.
بدأت حربي الأدبية الوجودية مع المجتمع المثقف الذي يزعم أنه يقدس الحرية، قررت أن أكتب وفق منطق الأدب: أن تحب ماتكتب، في الأدب تكون الولادة بوصفها موتًا، لنولد من جديد أحرارًا من أحقادنا وطائفيتنا وقبليتنا.
لايحق لنا أن نكتب قبل أن نعثر على مكان ما في داخلنا قد تُرك شاغرًا من "فاشيتنا".
"الحرية" إنها تلك الدمية العجفاء الفارغة والمتحركة بأسلاك تُحرك وفق مآرب ذلك الذي يرقصها على طبلته.
تجربة التحولات والاختلافات يجب أن نخوضها مع أنفسنا قبل كل شيء، لايحق لنا أن نتكلم عن الحرية بينما أقلامنا مأجورة لأحقادنا وانتماءاتنا الضيقة.
لنتحدث عن الحرية يجب أن نتكلم عن النسيان، أن تنسى ماضيك، وأهواءك وكرهك ونقمتك.
يجب أن تكون محرَّرا ومبرَّءا من قِبل انتماءك.
قبل أن يُقتل شقيقي في الحرب الدموية التي تدور رحاها على أرض وطني بإسم الحرية، كتبت نصوصًا تقدس الحرية والاختلاف، كتبت في روايتين: "بنات نعش" و"سلطانات الرمل" عن النساء البدويات اللواتي تسببنّ بمعارك قبلية بسبب "الحب" أي "الحرية" حرية اختيار الشريك، تمردنّ على القبيلة والتاريخ المدجج بالسلطة الدينية والذكورية والسياسية.
وعندما كتبت عن المجتمع المدني، اخترت مجتمع مدينة دمشق الثري والمغلق واخترت النساء اللواتي تسببنّ بفضائح عندما تمردنّ على الموروث المجحف بحق النساء. في روايتي "ألماس ونساء"، رويت حكاية الفتاة المسلمة التي عشقت يهوديًا وهاجرت لأجل أن تكون حرة باختيار رجلها، كذلك الفتاة المسيحية التي تزوجت مسلمًا رغم اعتراض مدينة بأكملها، أيضًا تلك الجارية الهندوسية التي تزوجت من مسيحي.
أعرف أن البشر يتأثرون بالأدب وقد يقلدونه في أحيان كثيرة وهذه نقطة القوة في الأدب إنه يؤثر على الأفراد وعندما نكتب عن أبطال يحتذون فإننا نساهم في التغيير مهما بدت هذه المساهمة طفيفة أو واهية.
قُتِل شقيقي، وتغيرت أشياء كثيرة في طريقة تفكيري. هل حقًا أن الأدب الجيد لا يكتب في الأوقات الصعب؟ تساؤل شرعي جدًا وتاريخ الأدب منحاز إلى حقيقة أن الارتجال والتسرع في الأدب يسيئ للمحن وللحزن وللقتلى الذين قد نكتب لأجلهم.
في روايتي الأخيرة "الذئاب لاتنسى"، كتبت لأجل التحرر من حزني، أردت حريتي أنا، كتبت في أصعب وقت عن محنتي الشخصية. قبل أن يُقتل شقيقي قتل الآلاف من السوريين الأبرياء، لكن مقتل شقيقي شيء آخر، حزني الشخصي، تجربتي المريرة مع خاطفيه الذين قتلوه، ثم رحلتي إلى الصحراء لدفنه حيث تسيطر الجماعات الإسلامية المتطرفة، أمور لم أتوقع أني سأختبرها يومًا.
ليس بإمكان الكتابة أن تفر بعيدًا عن مشاعر ومواقف كاتبها. سابقًا عندما كتبت أعمالي مثل "سلطانات الرمل" و"ألماس ونساء" و"نازك خانم" و"بنات نعش" كان يتحتم عليّ العودة إلى الوثائق، المخزونات الأرشيفية، الحوليات، لكن عندما كتبت نص : "الذئاب لاتنسى" عدت إلى نفسي، أكلت من نفسي، شربت من دمي لأكتب، هل ما كتبته حق وحرّ ؟ ! لا أعرف وأشكّ أننا أحرار بكل ما للكلمة من معنى، إننا نكتب لنحاول أن نكون أحرارًا، نستعين باللغة لنحتال على بشريتنا ونكتب عن الحرية لنعتقد أننا آلهة.
*************
لينا هويان الحسن في سطور:
لينا هويان الحسن، روائية وشاعرة وناقدة سورية، من مواليد منطقة الحمرا/ ريف حماه عام 1977، تحمل إجازة في الفلسفة - دبلوم دراسات عليا من جامعة دمشق.
كتبت "الحسن" روايتها الأولى وهي في سنتها الجامعية الثالثة، ليصدر لها بعد ذلك تسع روايات ومجموعة شعرية، إضافة إلى عدد من الدراسات التوثيقية عن البادية السورية ورجالاتها.
تعتبر "الحسن" أن الأدب بالنسبة لها تغيير ضروري، ووثبة مدروسة، وأن الكلمة ريشة فنية قابلة لأن تحمل أي لون لتضعه أنّى تشاء.
وفي روايتها الجديدة "الذئاب لا تنسى"، الصادرة مؤخرًا عن "دار الآداب" البيروتية، تتناول "الحسن" الأحداث الراهنة في بلدها سوريا، وتقول عن نصها هذا: "اخترت "الذئب" كرمز للبشر الذين كُتب عليهم كل هذا الحزن والخراب والفقد، أي السوريين. البدو يقولون إن الذئب لاينسى حزنه، لهذا يعوي، الذكر يستمر بالعواء حتى آخر لحظة في حياته عندما يفقد أنثاه، بينما الأنثى تعوي عندما تفقد وليدها. قبل ثلاثين سنة سمعت عواء ذئبة قتل الصيادون وليدها، وقتها لم أحزر لماذا انحفر ذلك العواء في أذني، حتى جاء ذلك اليوم الذي قُتِل فيه شقيقي وسمعت بكاء أمي. الأدب يقتات على الدماء، يزدهر في الحروب، ينعشه الموت والحزن، الحزانى هم الذين يكتبون، بينما الفرحون يعيشون الحياة وحسب". وتؤكد "الحسن" أنها كتبت في روايتها هذه، نصًا بعيدًا عن التحيز، "لم أتحزب لأي طرف من الأطراف التي تتقاتل على أرضنا، حرصت على أن لا أقع في فخ تأليه فكرة (الثورة" و"الثوار)، غالب المثقفين رفعوا لافتة (الثورة) لمجرد اعتناق فكرة يوتوبية قديمة عششت في أذهاننا دون أن نمحصها أو ندقق في مضمونها أو في جدواها، لهذا كتبت نصي وأنا جادة بمسألة التوازن اللائق بكاتب يفترض أنه يؤرخ لمأساة تحدث".
صدر لها من الروايات:
- "معشوقة الشمس" دار طلاس، دمشق 2000.
- "التروس القرمزية"، دار الشموس، دمشق 2001.
- "التفاحة السوداء"، دار الشموس، دمشق 2003.
- "بنات نعش"، دار شهرزاد ، طبعة أولى دمشق 2005، ، وط: ثانية 2006، وط: ثالثة 2008، عن دار ممدوح عدوان بدمشق.
- "سلطانات الرمل" دار ممدوح عدوان، طبعة أولى دمشق 2009، وط: ثانية 2010.
- "نازك خانم"،"منشورات ضفاف، بيروت 2013.
- "ألماس ونساء"، دار الآداب، طبعة أولى بيروت 2015. وصلت للقائمة القصيرة لجائزة الرواية العالمية "البوكر العربية" لعام 2015.
- "البحث عن الصقر غنام"، (للفتيان)، دار الآداب، بيروت 2015. دخلت القائمة الطويلة لجائزة الشيخ زايد للكتاب لفرع أدب الأطفال 2015.
- "الذئاب لا تنسى"، دار الآداب، بيروت 2016.
كما صدر لها:
- "أنا كارنينا تفاحة الحزن"، دراسة، دار شهرزاد الشام، دمشق 2004.
- "مرآة الصحراء"، كتاب توثيقي، دار الشمعة، دمشق 2004.
- "نمور صريحة في شاعرية الافتراس"، مجموعة شعرية، الهيئة العامة للكتاب - وزارة الثقافة السورية، دمشق 2011.
- "رجال وقبائل"، كتاب توثيقي عن أهم رجالات البادية السورية، عن الهيئة العامة للكتاب - وزارة الثقافة السورية، دمشق 2013.